الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير العلام شرح عمدة الأحكام
.باب الأذَان والإقامة: الأذان- لغة: الإعلام، قال الله تعالى: {وَأذَاَن مِنَ الله وَرَسُوله} أي إعلام منهما.وهو- شرعاً-: الإعلام بدخول وقت الصلاة المفروضة بألفاظ مخصوصة. وهو- على اختصاره- مشتمل على مسائل العقيدة، لأن التكبير يتضمن وجود الله وإثبات صفات الجلال والعظمة له، والشهادتان تثبتان التوحيد الخالص، ورسالة، محمد صلى الله عليه وسلم، وتنفيان الشرك. والدعاء إلى الفلاح يشير إلى المعاد والجزاء. وذكر العلماء له حكماً عظيمة، منها إظهار شعار الإسلام، وإظهار كلمة التوحيد، وإثبات الرسالة، والإعلام بدخول وقت الصلاة. ومنها الدعوة إلى الجماعة. وفي القيام به فضل عظيم لما روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو يَعْلَمُ الناسُ مَا في النّدَاءِ والصف الأوٌل ثم لَمْ يَجدُوا إِلا أنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لاسْتَهَمُوا» وغيره من الأحاديث الكثيرة. والأذان والإقامة كل واحد منهما فرض كفاية على الرجال للصلوات الخمس. وهما من شعائر الإسلام الظاهرة. يقاتل أهل بلد تركوهما. كان صلى الله عليه وسلم إذا أتى قوماً لا يعرفهم يستدل على إسلامهم بالأذان، وعلى كفرهم بتركه، فكان يأمر من يتسمع إليهم في أوقات الصلوات. وقد شُرع في المدينة، حينما استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في طلب طريق يعرفون بها دخول الوقت، ليأتوا إلى الصلاة. في المسجد. فرأى عبد الله بن زيد الأنصاري في المنام من أعلمه صفة الأذان، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم برؤياه فقال: إنها رؤيا حق فألقه على بلال، لأنه رفيع الصوت. فكان أفضل وسيلة لمعرفة أوقات الصلاة. الحديث الأول: عَنْ أنس بْنِ مَالِك رَضيَ الله عَنْهُ قَالَ: أُمِر بلال أنْ يَشْفَعَ الأذَانَ وَيُوترَ الإقَامَةَ. غريب الحديث: 1- أمر بلال: مبنى للمجهول. والآمر هو النبي صلى الله عليه وسلم فله حكم المرفوع. وأختلف أهل الأصول: هل تقتضي هذه الصيغة وأمثالها، الرفع أو لا؟. والصحيح أنها تقضيه، لأن الظاهر أن الآمر من له الأمر الشرعي وهو الرسول عليه الصلاة والسلام. 2- أن يشفع الآذان: يعني، يأتي بألفاظه شفعاً. أي مثنى والمثنى مرتان. 3- ويوتر الإقامة: يعنى، يأتي بألفاظها وتراً، وهو نقيض الشفع. المعنى الإجمالي: أمر النبي صلى الله عليه وسلم مؤذنه بلالاً أن يشفع الآذان لأنه لإعلام الغائبين، فيأتي بألفاظه مثنى. وهذا عدا (التكبير) في أوله، فقد ثبت تربيعه و(كلمة التوحيد) في آخره. فقد ثبت إفرادها. كما أمر بلالاً أيضاً أن يوتر الإقامة، لأنها لتنبيه الحاضرين. وذلك بأن يأتي بجملها مرة مرة، وهذا عدا (التكبير) وقد قامت الصلاة فقد ثبت تثنيتهما فيها. اختلاف العلماء: اختلف العلماء في حكم الأذان والإقامة. فذهب الإمام أحمد وبعض المالكية، وبعض الشافعية، وعطاء إلى أنهما واجبان على الكفاية، للرجال البالغين، مستدلين على ذلك بأحاديث كثيرة. منها حديث الباب. لأن الأمر يقتضي الوجوب. ومنها ما في الصحيحين عن مالك بن الحويرث: «فَاليُؤَذنْ لكم أحَدُكُمْ» وغير ذلك من الأحاديث. ولأنه من شعائر الإسلام الظاهرة يقاتل من تركها. وقد خص بعض هؤلاء الوجوب بالرجال دون النساء، لما روى البيهقي عن ابن عمر بإسناد صحيح: «لَيس عَلَى النسَاءِ أذَان وَلا إقامَة». ولأنه مطلوب منهن خفض الصوت والتستر، وَلسنَ من أهل الجماعة المطلوب لها الاجتماع. وذهبت الحنفية والشافعية إلى أنهما سنتان وليسا بواجبين. مستدلين بما صحح كثير من الأئمة من أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة مزدلفة لم يؤذنْ، وإنما أقام فقط. ويعارض ما نقل عن تركه الأذان بما روى البخاري عن ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم صلاها في جمع بأذانين وإقامتين. على أن شيخ الإسلام ابن تيمية ذكر في الاختيارات أن طوائف من القائلين بسنية الأذان يقولون: إذا اتفق أهل بلد على تركه، قوتلوا. فالنزاع مع هؤلاء قريب من اللفظي، لأن كثيراً من العلماء يطلقون القول بالسنة على. ما يذم ويعاقب تاركه شرعاً. أما من زعم أنه سنة لا إثم على تاركه فقد أخطأ. ا.هـ كلامه. واختلفوا أيضاً في صفة الأذان والإقامة. فذهب الإمام أحمد إلى جواز كل ما ورد في صفات الأذان والإقامة. لكنه اختار أذان بلال وإقامته، وأذان بلال المشار إليه خمس عشرة جملة، أربع تكبيرات، ثم أربع تشهدات، ثم أربع حيعلات، ثم تكبيرتان، ثم يختمه بـ لا إله إلا الله. والإقامة المشار إليها إحدى عشرة جملة، تكبيرتان، ثم تشهدان، ثم حيعلتان، ثم (قد قامت الصلاة) مرتين، ثم تكبيرتان، ثم يختم بـ لا إله إلا الله. والى هذه الصفة، ذهبت الحنفية والشافعية، وجمهور العلماء. واحتجوا بحديث عبد الله بن زيد في صفة الأذان والإقامة، وبأن هذه الصفة هي عمل أهل مكة بجمع المسلمين في المواسم وغيرها، ولم ينكره أحد. وذهب مالك، وأبو يوسف، وبعض العلماء: إلى تثنية تكبير الأذان. محتجين ببعض روايات حديث عبد الله بن زيد، وبأذان أبي محذورة وبحَديث أنس: «أمِرَ بِلالٌ أنْ يَشْفَعَ الأذَانَ». والأولى الأخذ بالزائد، لأن الزيادة التي لا تنافي، إذا كانت من ثقة فهي مقبولة. قال ابن حزم، إنما اخترنا أذان أهل مكة: لأن فيه زيادة ذكر الله. واختلفوا في ترجيع الأذان، ومعنى الترجيع أن يقول المؤذن. التشهد خافضاً به صوته، ثم يعيده، رافعاً صوته. فذهبت المالكية والشافعية: إلى استحبابه، وهو عمل أهل الحجاز، أخذاً بحديث أبي محذورة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لقَّنه إياه في مكة. وذهبت الحنفية إلى عدم الاستحباب، احتجاجاً بالظاهر من حديث عبد الله بن زيد. والإمام أحمد يجيز الأمرين، ولكنه يختار أذان بلال. قال ابن عبد البر: ذهب أحمد وإسحاق وداود وابن جرير إلى أن ذلك من الاختلاف المباح فإن رَبع أو رَجع أو ثنى الأذان مع إفراد الإقامة أو ثناها معه أو ثنى الألفاظ كلها فإنه جائز. ما يؤخذ من الحديث من الأحكام: 1- وجوب الأذان والإقامة، أخذاً من صيغة الأمر الصادر من النبي صلى الله عليه وسلم فإن الصيغة تقتضي رفع الحديث. قال ابن حجر: هو قول محققي الطائفتين، من المحدثين والأصوليين. 2- استحباب شفع الأذان وإيتار الإقامة، لأن الوجوب معارض بصفات للأذان والإقامة ثابتة، يؤخذ من مجموع الأدلة جواز جميع الوارد. 3- شدة الاهتمام بالأذان على الإقامة، لكونه نداء للبعيد. 4- المراد بشفع الأذان ماعدا التكبيرات الأربع في أوله، وكلمة التوحيد في آخره، فإنها مخصصة بأدلة أخرى. 5- المراد بوتر الإقامة ماعدا التكبيرتين في أولها و(قد قامت الصلاة)، فإنهما مشفوعتان لتخصيصهما بأدلة أخر. الحديث الثاني: عَنْ أبي جُحَيْفَةَ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ الله السُوَائي قالَ: أتيتُ النَّبيَ صلى الله عليه وسلم وهوَ في قُبّةٍ لَه حَمرَاءَ مِنْ أدَم، قَالَ: فخَرَج بِلالٌ بوَضُوءٍ، فَمِنْ نَاضِح وَنائِل فَخَرَجَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيهِ حُلَّةٌ حَمْرَاءُ كَأنّي أنْظرُ إلَى بياضِ سَاقَيهِ، قَالَ: فَتوَضأ وَأذّنَ بِلال. قال: فَجَعَلْتُ أتَتَبَّع فَاهُ هاهنا هاهُنَا، يَقُولُ يَميناً وشِمَالاً. حَي عَلَى الصَّلاةِ، حَيَّ عَلَى الفَلاح. ثُمَّ رُكِزَتْ لَهُ عَنَزَة فَتَقَدَّم وَصَلّى الظهْرَ رَكعَتَينِ. ثُم لم يزَل يُصلي رَكْعَتَين حَتَّى رَجَعَ إلَى المَدِينَةِ. غريب الحديث: 1- في قبة من أدَم: جمع أديم، والأدم، بضم الهمزة وفتحها الجلد المدبوغ، القبة هي الخيمة. 2- وضوء: يعني الماء. 3- حلة: لا تكون إلا من ثوبين، إزار ورداء أو غيرهما وتكون ثوبا له بطانة. 4- فمن ناضح ونائل: النضح، الرش، والمراد هنا الأخذ من الماء الذي توضأ به النبي صلى الله عليه وسلم للتبرك، والنائل:- الآخذ ممن أخذ من وضُوئِه عليه الصلاة والسلام. 5- أتتبع فاه هاهنا هاهنا: ظرفا مكان، والمراد يلتفت جهة اليمين وجهة الشمال ليبلغ من حوله. 6- عَنَزَة: رمح قصير، في طرفه حديدة دقيقة الرأس يقال لها: زُجّ و(العنزة) بفتح العين والنون والزاي، آخره تاء مربوطة. المعنى الإجمالي: كان النبي صلى الله عليه وسلم نازلاً في الأبطح في أعلىٍ مكة، فخرج بلال بفضل وَضُوءِ النبي صلى الله عليه وسلم، وجعَلَ الناس يتبركون به، وَأذَّن بلال. قال أبو جحيفة: فجعلت أتتبع فم بلال، وهو يلتفت يمناً وشمالا عند قوله حي على الفلاح ليسمع الناس حيث إن الصيغتين حث على المجيء إلى الصلاة. ثم ركزت له رمح قصيرة لتكون سترة له في صلاته، فصلى الظهر ركعتين. ثم لم يزل يصلى الرباعية ركعتين حتى رجع إلى المدينة، لكونه مسافراً. ما يؤخذ من الحديث من الأحكام: 1- مشروعية التفات المؤذن يميناً وشمالا عند قوله: (حي على الصلاة، حي على الفلاح) والحكمة في هذا تبليغ الناس ليأتوا إلى الصلاة. 2- مشروعية قصر الرباعية إلى ركعتين في السفر، ويأتي إن شاء الله. 3- مشروعية السترة أمام المصلى ولو في مكة،ويأتي إن شاء الله. 4- شدة محبة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم وتبركهم بآثاره. ولكن لا يلحقه في ذلك العلماء والصالحون، فإن له خصوصيات ينفرد بها عن غيره. ومن قاس غيره عليه، في هذا وأمثاله فقد أخطأ. 5- ورد في أحاديث كثيرة النهي عن لبس الأحمر للرجال. فمنها ما في البخاري (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المياثر الحمر). فكيف ذكر هنا، أن عليه حلة حمراء؟ ذكر ابن القيم في الهَدْىِ النبوي أي (زاد المعاد) أن الحلة هنا، ليست حمراء خالصة، وإنما فيها خطوط حمر، وسود، وغلط من ظن أنها حمراء بحت، لا يخالطها غيره. والتي أكثر أعلامها حمر يقال لها: حمراء. ورأيت نقلاً عن شيخنا عبد الرحمن السعدي أنه لبسها لبيان الجواز. وعندي أن جمع ابن القيم أحسن، لأن النهي عن الأحمر الخالص، شديد فكيف يلبسه لبيان الجواز؟ والله أعلم. ذكر القاضي عياض أن في الكلام تقديماً وتأخيراً فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج بلال بوضوء ويؤيد قوله رواية البخاري: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة، فأتى بوضوء فتوضأ، فجعل الناس يأخذون من فضل وضوئه فيتمسحون به. الحديث الثالث: عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ بِلالا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ. فَكُلُوا حَتى يُؤَذن ابْنُ أم مَكْتُوم». المعنى الإجمالي: كان للنبي صلى الله عليه وسلم مؤذنان، بلال بن رباح، وعبد الله بن أم مكتوم وكان ضريراً. فكان بلال يؤذن لصلاة الفجر قبل طلوع الفجر، لأنها تقع وقت نوم ويحتاج الناس إلى الاستعداد لها قبل دخول وقتها. فكان صلى الله عليه وسلم ينبه أصحابه إلى أن بلالا يؤذن بليل، فيأمرهم بالأكل والشرب حتى يطلع الفجر، ويؤذن المؤذن الثاني وهو ابن أم مكتوم لأنه كان يؤذن مع طلوع الفجر الثاني. وذلك لمن أراد الصيام، فحينئذ يكف عن الطعام والشراب ويدخل وقت الصلاة. وهو خاص بها، ولا يجوز فيما عداها أذان قبل دخول الوقت. واختلف في الأذان الأول لصلاة الصبح، هل يكتفي به أو لابد من أذان ثان لدخول الوقت؟ وجمهور العلماء على أنه مشروع ولا يكتفي به. ما يؤخذ من الحديث من أحكام: 1- جواز الأذان لصلاة الفجر قبل دخول وقتها. 2- جواز اتخاذ مؤذنين لمسجد واحد، ويكون لأذان كل منهما وقت معلوم. 3- جواز اتخاذ المؤذن الأعمى وتقليده لأن ابن أم مكتوم، رجل أعمى. 4- وفيه استحباب تنبيه أهل البلد أو المحلة على إرادة الأذان قبل طلوع الفجر حتى يكونوا على بصيرة. 5- اتخاذ مؤذن ثان يؤذن مع طلوع الفجر. 6- وفيه استحباب عدم الكَف عن الأكل والشرب لمن أراد الصيام حتى يتحقق طلوع الفجر، وأن لا يمسك قبل ذلك والأمر في قوله: فكلوا واشربوا هو للإباحة، والإعلام بامتداد وقت السحور إلى هذا الوقت. وسيأتي إن شاء الله. 7- فيه جواز العمل بخبر الواحد إذا كان ثقة معروفا. الحديث الرابع: عَنْ أبي سَعِيدٍ الخُدرِي رَضيَ الله عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا سَمِعْتُمُ المُؤَذنَْ فَقُولُوا مِثْل مَا يَقُولُ». المعنى الإجمالي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا سمعتم المؤذن للصلاة فأجيبوه، بأن تقولوا مثل ما يقول. فحينما يكبر فكبروا بعده، وحينما يأتي بالشهادتين، فأتوا بهما بعده، فإنه يحصل لكم من الثواب ما فاتكم من ثواب التأذين الذي حازه المؤذن، والله واسع العطاء، مجيب الدعاء. ما يؤخذ من الحديث من الأحكام: 1- مشروعية إجابة المؤذن بمثل ما يقول. وذلك بإجماع العلماء. 2- أن تكون إجابة المجيب بعد انتهاء المؤذن من الجملة لقوله: (فقولوا). لأن الفاء للترتيب. وقد صرح. بذلك في بعض الأحاديث. منها ما رواه النسائي عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول كما يقول المؤذن حين يسكت. 3- أن يجيب المؤذن في كل أحواله، إن لم يكن في خلاء أو على حاجته، لأن كل ذكر له سبب لا ينبغي إهماله، حتى لا يفوت بفوات سببه. 4- ظاهر الحديث أن السامع يجيب المؤذن بمثل ما يقول في كل جمل الأذان. والذي عند جمهور العلماء أن المجيب يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله عند قول المؤذن: حي على الصلاة وحي على الفلاح كما ورد في صحيح مسلم عن عمر بن الخطاب ومنه: «ثم قال: حي على الصلاة قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال حي على الفلاح قال: لا حول ولا قوة إلا بالله». ولأن الحيعلة لا تناسب السامع: إنما الذي يناسبه الحوقلة فحينما دعاهم المؤذن أجابوه بقولهم: لا حول ولا قوة إلا بالله أي بمعونته وتأييده يكون مجيئنا للصلاة وقيامنا بها. فائدة: روى البخاري في صحيحه، عن جابر بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من قال حين يسمع النداء: «اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة». .باب استقبال القبْلَة: قبلة المسلمين هي الكعبة المشرفة، التي هي عنوان توحيدهم ووحدتهم ومتجه أنظارهم، وملتقى قلوبهم وأرواحهم.وقد جعل الله هذه الكعبة قياماً للناس، في أحوال دينهم ودنياهم، وأمْناً لهم عند الشدائد، يجدون في ظلها الطمأنينة والأمن والإيمان. وبقاؤها تُحَجُ وتزَارُ هو علامة بقاء الدين وقيامه. وكان النبي عليه الصلاة والسلام قبل الهجرة يستقبل الكعبة وبيت المقدس معاً على المشهور. فلما هاجر إلى المدينة وفيها اليهود، اقتصر على استقبال بيت المقدس ستة عشر شهراً، وكان يتشوق إلى استقبال الكعبة، أشرف بقعة على الأرض، وأثر أبي الأنبياء وإمام الحنفاء إبراهيم الخليل عليه السلام، فصرفت القبلة إلى الكعبة في السنة الثانية للهجرة. واستقبال القبلة في الصلاة، ثابت في الكتاب والسنة والإجماع. وهو شرط للصلاة، لا تصح بدونه إلا عند العجز أو للنافلة على الدابة، كما سيأتي في هذه الأحاديث، إن شاء الله تعالى. الحديث الأول: عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ رضي الله عَنْهُمَا: أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يُسَبِّحُ عَلَى ظَهْرِ رَاحِلَتِهِ حَيْث كَانَ وجْهُهُ، يومئ برأسه، وَكَانَ ابن عُمَرَ يَفعَلُهُ. وفي رواية: كَانَ يُوتِرُ عَلى بَعِيرِهِ. ولـ مسلم: غَيْر أنّهُ لا يُصَلى عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَةَ. وللبخاري إلا الْفَرَائِضَ. غريب الحديث: 1- يسبح على ظهر راحلته: التسبيح هنا، يراد به صلاة النافلة، من تسمية الكل باسم البعض. وقد خصت النافلة باسم التسبيح، قال ابن حجر: وذلك عرف شرعي. 2- المكتوبة: يعنى الصلوات الخمس المفروضات. 3- الراحلة: الناقة التي تصلح لأن ترحل. المعنى الإجمالي: الغالب في الشريعة أن صلاة الفريضة وصلاة النافلة تشتركان في الأحكام، وهذا هو الأصل فيهما. فما ورد في إحداهما من حكم، فهو لهما سواء. ولكنه يوجد بعض الأدلة التي تخص إحداهما بحكم دون الأخرى. والغالب على هذه الفروق بينهما، تخفيف الأحكام في النافلة دون الفريضة، ومن ذلك، هذا الحديث الذي معنا. فإنه لما كان المطلوب تكثير نوافل الصلاة والاشتغال بها خفف فيها. فكان صلى الله عليه وسلم يصليها في السفر على ظهر راحلته حيث توجهت به ولو لم تكن تجاه القبلة ويومئ برأسه إشارة إلى الركوع والسجود. ولا فرق بين أن تكون نفلا مطلقاً، أو من الرواتب أو من الصلوات ذوات الأسباب. لهذا كان يصلى على الراحلة آكد النوافل وهو الوتر. أما الصلوات الخمس المكتوبات فوقوعها قليل لا يشغل المسافر فيها، ويجب الاعتناء بها وتكميلها، فلذا لا تصح على الراحلة إلا عند الضرورة. أحكام الحديث: 1- جواز صلاة النافلة في السفر على الراحلة وفعل ابن عمر له أقوى من مجرد الرواية. 2- ذهب الإمام أحمد وأبو ثور إلى استقبال القبلة حال ابتداء الصلاة، وذلك لحديث أنس من أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يتطوع في السفر استقبل بناقته القبلة، ثم صلى حيث وجهه ركابه وظاهر الحديث العموم. 3- عدم جواز الفريضة على الراحلة بلا ضرورة. قال العلماء: لئلا يفوته الاستقبال، فإنه يفوته ذلك وهو راكب. أما عند الضرورة من خوف أو سَيْل، فيصح، كما صحت به الأحاديث. 4- أن الإيماء هنا، يقوم مقام الركوع والسجود. 5- أن قبلة المتنفل على الراحلة، هي الوجهة التي هو متوجه إليها. 6- أن الوتر ليس بواجب، حيث صلاه عليه الصلاة والسلام، على الراحلة. 7- أنه كلما احتيجت إلى شيء دخله التيسير والتسهيل. وهذا من بعض ألطاف الله المتوالية على عباده. 8- سماحة هذه الشريعة، وترغيب العباد في الازدياد من الطاعات، بتسهيل سبلها. ولله الحمد والمنة. 9- ذكر الصنعاني أن ألفاظ هذا الحديث مجموعة من عدة روايات في البخاري ومسلم، وأنه ليس في الصحيحين رواية هكذا لفظها. 10- لا يستدل بهذا الحديث على أن الخفض في السجود أكثر من الركوع، وإنما ذلك في حديث جابر حيث يقول: جئت وهو يصلى على راحلته نحو المشرق والسجود أخفض من الركوع وقد أخرجه الترمذي وأبو داود. 11- ذهب جمهور العلماء إلى جواز ترك الاستقبال في السفر الطويل والقصير إلا مالكا فقد خصه بالسفر الذي تقصر فيه الصلاة ولم يوافقه أحد على ذلك. الحديث الثاني: عَبْد الله بْنِ عُمَرَ رضي الله عَنْهُمَا قالَ: بَيْنَمَا النَّاسُ بقُبَاءَ في صَلاَةِ الصُّبْحِ إِذْ جَاءَهُم آتٍ فقَالَ: إنَّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قدْ أنْزلَ عَلَيْهِ اللَّيلَة قُرْآنٌ، وقدْ أمر أنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبةِ فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة. المعنى الإجمالي: تقدم أنه لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وفيها كثير من اليهود، اقتضت الحكمة الرشيدة أن تكون قبلة النبي صلى الله عليه وسلم قبلة الأنبياء السابقين بيت المقدس فصلوا إلى تلك القبلة ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يشوق إلى صَرْفِهِ إلى استقبال الكعبة المشرفة. فأنزل الله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلّبَ وَجْهِكَ في السمَاء فَلَنُوَليَنكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَ فَوَل وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسجِد الْحَرَاَم}. فخرج أحدُ الصحابة إلى مسجد قُباء بظاهر المدينة، فوجد أهله لم يبلغهم نسخ القبلة، ويصلون إلى القبلة الأولى، فأخبرهم بصرف القبلة إلى الكعبة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أنزل إليه قرآن في ذلك. يشير إلى الآية السابقة وأنه صلى الله عليه وسلم استقبل الكعبة في الصلاة. فمن فقههم وسرعة فهمهم وصحته استداروا عن جهة بيت المقدس- قبلتهم الأولى- إلى قبلتهم الثانية، الكعبة المشرفة. أحكام الحديث: 1- القبلة: أول الهجرة كانت إلى بيت المقدس، ثم صرفت إلى الكعبة. 2- أن قبلة المسلمين، استقرت على الكعبة المشرفة. فالواجب استقبال عينها عند مشاهدتها واستقبال جهتها عند البعد عنها. 3- أن أفضل البقاع، هو بيت الله، لأن القبلة أقرت عليه، ولا يقر هذا النبي العظيم وهذه الأمة المختارة إلا على أفضل الأشياء. 4- جواز النسخ في الشريعة، خلافا لليهود ومن شايعهم من منكري النسخ. 5- أن من استقبل جهة في الصلاة، ثم تبين له الخطأ أثناء الصلاة، استدار ولم يقطعها، وما مضى من صلاته صحيح. 6- أن الحكم لا يلزم المكلف إلا بعد بلوغه، فإن القبلة حُولت، فبعد التحويل وقبل أن يبلغ أهل قباء الخبر، صلوا إلى بيت المقدس، فلم يعيدوا صلاتهم. 7- أن خبر الواحد الثقة-إذا حفتْ به قرائن القبول- يصدق ويعمل به، وإن أبطل ما هو متقرر بطريق العلم. 8- وفيه أن العمل ولو كثيراً في الصلاة، إذا كان لمصلحتها، مشروع. 9- وفيه دليل على قبول خبر الهاتف واللاسلكي في دخول شهر رمضان أو خروجه، وغير ذلك من الأخبار المتعلقة بالأحكام الشرعية، لأنه وإن كان نقل الخبر من فرد إلى فرد، إلا أنه قد حَفَ به من قرائن الصدق، ما يجعل النفس تطمئن ولا ترتاب في صدق الخبر، ولتجربة المتكررة أيدت ذلك. 10- قال الطحاوي: في الحديث دليل على أن من لم يعلم بفرض الله تعالى ولم تبلغه الدعوة، فالفرض غير لازم له: والحجة غير قائمة عليه، ا.هـ وزاد الأصوليون أن الفهم شرط التكليف وعن ابن تيمية في مثل هذا قولان أحدهما موافق لما ذكر. الحديث الثالث: عَنْ أنس بْنِ سِيرينَ قَالَ: اسْتَقْبَلْنَا أنَساً رَضيَ الله عَنْهُ حِين قَدِمَ مِن الشامِ، فَلَقِينَاهُ بِعَيْنِ التمْرِ، فَرَأيتهُ يُصَلى عَلَى حِمَار وَوَجْهُهُ مِنْ ذا الجَانِبِ- يَعْنى عن يسار القبلة- فَقلْتُ: رأيتك تُصَلِّى لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ؟ فَقَاَلَ: لَوْلا أني رَأيْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فعَلُه مَا فَعَلتُهُ. المفردات: أنس بن سيرين: أخو الإمام الكبير والتابعي الشهير محمد بن سيرين. عين التمر: بلدة على حدود العراق الغربية، يكثر فيها التمر. المعنى الإجمالي: قدم أنس بن مالك الشام، ولجلالة قدره وسعة علمه، استقبله أهل الشام. فذكر الراوي-وهو أحد المستقبلين- أنه رآه يصلى على حمار، وقد جعل القبلة عن يساره. فسأله عن ذلك، فأخبرهم أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذالك، وأنه لو لم يره يفعل هذا، لم يفعله. ما يؤخذ من الحديث: 1- الحديث لم يبين صلاة أنس هذه، أفرض هي، أم نفل؟. ومن المعلوم أنها نفل، لأنه المعهود من فعل النبي صلى الله عليه وسلم الذي رآه أنس وغيره. 2- أن قبلة المصلى على الراحلة، حيث توجهت به راحلته. 3- جواز صلاة النافلة على الراحلة، في السفر، ولو حماراً. |